الجمعة، 8 أكتوبر 2010

محسن الذهبي في قراءة نقدية لأعمال التشكيلية ايمان علي



رغبات انسانية في اقتناص وطن

جنوح الذاكرة في اعمال التشكيلية العراقية ايمان علي

محسن الذهبي 

اذا كان الخيال هو مرتكز الإبداع والقدرة على خلق الصور الذهنية للأشياء غير الماثلة أمام الحواس أو عن الأشياء التي لم تشاهد من قبل في عالم الحقيقة والواقع، فالخيال اذن هو العنصر الاساسي من عناصر ايجاد المنتج الجمالي، ذلك أن الفن هو الشيء الوحيد القادر على اختصار المديات من خلال ايجاد الدلالات وخلق الصور الإبداعية المعبرة، والتي تتجاوز محدودية الاشياء المحيطة بنا. نسوق هذه المقدمة ونحن نحاول الغور في تفاصيل الابداع التشكيلي للفنانة العراقية ( ايمان علي خالد) والمغتربة منذ سنوات في هولندا، فهي قد دأبت منذ البدء على تحويل الاسطورة الى نص مرئي فقدمت اعمالها بوجه مغاير ومختلف أفرز تنوعا في النظر إلى بؤرة المبتغى الجمالي عبر أساليب ارتكزت على النص الموازي وربما التناص مع التراث والاساطير التاريخية وفق آلية التجريب وتوظيفها بأشكال التعبيري التشكيلي فهي تجسد التشخيص الشكلي بتجريد تعبيري . وهو ما أفرز ثراء في الانجاز الابداعي وتنوعا ومنحها سعة في افق التعبير.فمنذ معرضها الاول ( عالم خاص - 1992) و( قبلة - 1993) في أروقة مركز الفنون في بغداد ومرروا بعشرات المشاركات في معارض فردية وجماعية في عمان وتونس ودبي وميونيخ وامستردام وغيرها .. وصولا إلى آخر عملين قدمتهما في مشاركتها الاخيرة في معرض ' ألوان من بغداد' الذي اقيم مؤخرا في مدينة لاهاي الهولندية والذي كان موضوعهما موت الالهة عشتار وادونيس ونزولهما الى باطن الارض.اذا سألتها تقول: ( انا ارسم شمسا...ارسم بحرا...ارسم عشبا ومراكب ..ارسم زهورا ..وقناديل .. وليلا ً لازوردياً ساطعاً ...ارسم لوحة ....)نعم انها ترسم تفاصيل الاشياء مبتعده عن النقل السطحي في محاولة منها للبحث والتجريب في عوالم اللون والشكل والابتعاد عن الانساق المتواترة للمدارس الفنية المعروفة فلا يحدد ابداعها الا اللحظة الابداعية لروح شرقية جامحة ومتمردة تشتغل بانفعال كامن وسكون ظاهر. تحاول ان تقول كل ما بداخلها دفعة واحدة لكنها تعود لتجدد المغامرة حين تنتهي من عمل الى آخر.نعزو هذا الجنوح في اعمال الفنانة ( ايمان علي) إلى المخزون الذاتي الذي احتوته الذاكرة منذ أيام الطفولة وشكلا للبذرة الاولى في وعيها البصري. لقد علقت في مخيِّلتها، الكثير من تلك الأساطير التي عاشت وتربت معها من مخزون الموروث الرافديني المتأصل، مما ساعدها في خلق شخوص مجرَّدة من تعبيراتها التفصيلية الصغيرة لتعبِّر عن ذاتها وقدراتها الأسطورية المذهلة. وقد كان لتلك الصور الغائبة عن الواقع فضاء واسع تجول به في حرية استنطقتها لأعمالها التجريدية عبر اللون والشكل والمضمون؛ وقد ساهمت مساهمة رائعة في بناء عالمها الفنِّي المتميّز بالتجريب والتشخيص معا بشكل مغاير والقادر على خلق روح اخرى لمدلول العمل الفني لعالم آخر، وتلاحمه مع الذات تعبيرا.ولقد شرح كاندينسكي تلك ' الضرورة الداخلية' قائلا: ' لا نهتم بالدعوة إلى شكل معيَّن أو نظام محدَّد، وهدفنا أن نيسِّر، من خلال استعراض الأشكال المتنوعة، التعبير عن الرغبات الباطنة التي يستشعرها كلُّ فنان بالطريقة التي ترضيه، سواء كانت هذه الطريقة تعبيرية أو تكعيبية أو محاولات تجريدية.'فأعمالها تذهب إلى ما وراء المدركات الحسية اذن وتسعى عبر اكتناز الواقع بشخوصه التعبيرية إلى تأويل سرالمخبوء في طيات الذات. فهي بقدر ما استطاعت كسب رهان التكثيف الصوري والومضات التعبيرية اعتمادا على البناء المتين ووحدة الحدث الحكائي، استطاعت فرض مكانتها بشكل واضح وإبراز هويتها وطرقها الخاصة في التعبير والتواصل الجذاب والمقنع داخل عالم متسارع وحانق في نفس الوقت. ان فضاء اللوحة في اعمالها مجموعة من الرؤى المختلفة والمتضادة احيانا، فهي مساحة استعراض وتصادم، لخلق درجة من التوتر ترفع وتيرة الاكتشاف لدى المتلقي، وتحاول ان توجز مغزى الأحاسيس الإنسانية وتبحث عن عناصر أساسية تشترك في بلورة رؤى الشخصيات المتصارعة وتحديد استجاباتها. فهي اذ تستخدم ألواناً حارة وصريحة تساعدها في خلق نوع من التناغم والإيقاع المناسب في خلق الأثر الإبداعي وتمنح المضمون الفني تركيبته الدقيقة وتأثيره البالغ. باختصار انها تجيد توظيف القيمة اللونية لخدمة الموضوع شكلا ومضمونا في تصوير المفردات التشكيلية وفق مواصفاتها الأصلية بل تخضع إشارتها الى وعي خاص وفهم ذاتي لما يحيط بها والتعامل معه بصيغ ملائمة فهي تسعى الى مقاربة نصية تحتمل كل اوجه التأويل، الذي تتجاوز فيه المألوف بهدف إنتاج صور ورموز وأفكار مغايرة. ان عوالم ( الفنانة ايمان علي) اقل ما يقال عنها هو أنها عوالم ساحرة تغري عين المشاهد بتأويل صور مستحدثة تثير المخيلة. 

محسن الذهبي

ناقد تشكيلي عراقي مقيم في بريطانيا

muhsinaldahabi@googlemail.com

http://www.alquds.co.uk/scripts/print.asp?fname=data\2010\10\10-01\01qpt84.htmå جريدة القدس العربي



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق